سورة الحج - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ} أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المسجد الحرام عام الحديبية، وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع، إلا أن يريد صدهم لافراد من الناس، فقد وقع ذلك في صدر من المبعث. والصد: المنع، أي وهم يصدون. وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي.
وقيل: الواو زائدة {وَيَصُدُّونَ} خبر {إِنَّ}. وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله: {وَالْبادِ} تقديره: خسروا إذا هلكوا. وجاء {وَيَصُدُّونَ} مستقبلا إذ هو فعل يديمونه، كما جاء قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28]، فكأنه قال: إن الذين كفروا من شأنهم الصد. ولو قال إن الذين كفروا وصدروا لجاز. قال النحاس: وفي كتابي عن أبي إسحاق قال وجائز أن يكون- وهو الوجه- الخبر {نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ}. قال أبو جعفر: وهذا غلط، ولست أعرف ما الوجه فيه، لأنه جاء بخبر {إِنَّ} جزما، وأيضا فإنه جواب الشرط، ولو كان خبر {إِنَّ} لبقي الشرط، بلا جواب، ولا سيما والفعل الذي في الشرط مستقبل فلا بد له من جواب.
الثانية: قوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ} قيل: إنه المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن، لأنه لم يذكر غيره.
وقيل: الحرم كله، لان المشركين صدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجا عنه، قال الله تعالى: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} [الفتح: 25] وقال: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} [الاسراء: 1]. وهذا صحيح، لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك.
الثالثة: قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ} أي للصلاة والطواف والعبادة، وهو كقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96]. {سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ} العاكف: المقيم الملازم. والبادي: أهل البادية ومن يقدم عليهم. يقول: سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه الحاضر والذي يأتيه من البلاد، فليس أهل مكة أحق من النازح إليه.
وقيل: إن المساواة إنما هي في دوره ومنازله، ليس المقيم فيها أولى من الطارئ عليها. وهذا على أن المسجد الحرام الحرم كله، وهذا قول مجاهد ومالك، رواه عنه ابن القاسم. وروي عن عمر وابن عباس وجماعة أن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى.
وقال ذلك سفيان الثوري وغيره. وكذلك كان الامر في الصدر الأول، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة، فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله تعالى:؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء، وكانت الفساطيط تضرب في الدور.
وروى عن مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد، وهذا هو العمل اليوم.
وقال بهذا جمهور من الامة.
وهذا الخلاف يبنى على أصلين: أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم للناس. وللخلاف سببان: أحدهما هل فتح مكة كان عنوة فتكون مغنومة، لكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقسمها وأقرها لأهلها ولمن جاء بعدهم، كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض السواد وعفا لهم عن الخراج كما عفا عن سبيهم واسترقاقهم إحسانا إليهم دون سائر الكفار فتبقى على ذلك لاتباع ولا تكرى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي. أو كان فتحها صلحا- وإليه ذهب الشافعي- فتبقى ديارهم بأيديهم، وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاءوا.
وروى عن عمر أنه اشترى دار صفوان بن أمية بأربعة آلاف وجعلها سجنا، وهو أول من حبس في السجن في الإسلام، على ما تقدم بيانه في آية المحاربين من سورة المائدة. وقد روى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبس في تهمة. وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول: لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة. قلت: الصحيح ما قاله مالك، وعليه تدل ظواهر الاخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة. قال أبو عبيد: ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد.
وروى الدارقطني عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وزاد في رواية، وعثمان.
وروى أيضا عن علقمة بن نضلة الكناني قال: كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما السوائب، لا تباع من احتاج سكن ومن استغنى أسكن.
وروى أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها واكل ثمنها- وقال- من أكل من أجر بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا». قال الدارقطني: كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ووهم فيه، ووهم أيضا في قوله: عبيد الله بن أبي يزيد وإنما هو ابن أبي زياد القداح، والصحيح أنه موقوف، وأسند الدارقطني أيضا عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها».
وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله، ألا أبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك من الشمس؟ فقال: «لا، إنما هو مناخ من سبق إليه». وتمسك الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ 40} [الحج: 40] فأضافها إليهم.
وقال عليه السلام يوم الفتح: «من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن».
الرابعة: قرأ جمهور الناس: {سواء} بالرفع، وهو على الابتداء، و{الْعاكِفُ} خبره.
وقيل: الخبر {سواء} وهو مقدم، أي العاكف فيه والبادي سواء، وهو قول أبي علي: والمعنى: الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا العاكف فيه والبادي سواء. وقرأ حفص عن عاصم: {سَواءً} بالنصب، وهي قراءة الأعمش. وذلك يحتمل أيضا وجهين: أحدهما- أن يكون؟؟ مفعولا ثانيا لجعل، ويرتفع {الْعاكِفُ} به لأنه مصدر، فأعمل عمل اسم الفاعل لأنه في معنى مستو. والوجه الثاني- أن يكون حالا من الضمير في جعلناه. وقرأت فرقة: {سَواءً} بالنصب {العاكف} بالخفض، و{البادي} عطفا على الناس، التقدير: الذي جعلناه للناس العاكف واليادى. وقراءة ابن كثير في الوقف والوصل بالياء ووقف أبو عمرو بغير ياء ووصل بالياء. وقرأ نافع بغير ياء في الوصل والوقف. وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام، واختلفوا في مكة، وقد ذكرناه.
الخامسة: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ} شرط، وجوابه {نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ}. والإلحاد في اللغة: الميل، إلا أن الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد. واختلف في الظلم، فروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ} قال: الشرك.
وقال عطاء: الشرك والقتل.
وقيل: معناه صيد حمامه، وقطع شجره، ودخوله غير محرم.
وقال ابن عمر: كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان: لا والله! وبلى والله! وكلا والله! ولذلك كان له فسطاطان، أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل، صيانة للحرم عن قولهم كلا والله وبلى والله، حين عظم الله الذنب فيه. وكذلك كان لعبد الله بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، وإذا أراد أن يصلي صلى في الحرم، فقيل له في ذلك فقال: إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول كلا والله وبلى والله، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فتكون المعصية معصيتين، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام، وهكذا الأشهر الحرم سواء. وقد تقدم.
وروى أبو داود عن يعلى بن أمية أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه». وهو قول عمر بن الخطاب. والعموم يأتي على هذا كله.
السادسة: ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله. وقد روى نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا: لو هم رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو بعدن أبين لعذبه الله. قلت: هذا صحيح، وقد جاء هذا المعنى في سورة {ن وَالْقَلَمِ} [القلم: 1] مبينا، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.
السابعة: الباء في {بِإِلْحادٍ} زائدة كزيادتها في قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ 20} [المؤمنون: 20]، وعليه حملوا قول الشاعر:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج *** نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أراد: نرجو الفرج.
وقال الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ***
أي رزق.
وقال آخر:
ألم يأتيك والإنباء تنمي *** بما لاقت لبون بني زياد
أي ما لاقت، والباء زائدة، وهو كثير.
وقال الفراء: سمعت أعرابيا وسألته عن شيء فقال: أرجو بذاك، أي أرجو ذاك.
وقال الشاعر:
بواد يمان ينبت الشث صدره *** وأسفله بالمرخ والشبهان
أي المرخ. وهو قول الأخفش، والمعنى عنده: ومن يرد فيه إلحادا بظلم.
وقال الكوفيون: دخلت الباء لان المعنى بأن يلحد، والباء مع أن تدخل وتحذف. ويجوز أن يكون التقدير: ومن برد الناس فيه بإلحاد. وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه. ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة. هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم، وقد ذكرناه آنفا.


{وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ} أي واذكر إذ بوأنا لإبراهيم، يقال: بوأته منزلا وبوأت له. كما يقال: مكنتك ومكنت لك، فاللام في قوله: {لِإِبْراهِيمَ} صلة للتأكيد، كقوله: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72]، وهذا قول الفراء.
وقيل: {بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ} أي أريناه أصله ليبنيه، وكان قد درس بالطوفان وغيره، فلما جاءت مدة إبراهيم عليه السلام أمره الله ببنيانه، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرا، فبعث الله ريحا فكشفت عن أساس آدم عليه السلام، فرتب قواعده عليه، حسبما تقدم بيانه في البقرة.
وقيل: {بَوَّأْنا 10: 93} نازلة منزلة فعل يتعدى باللام، كنحو جعلنا، أي جعلنا لإبراهيم مكان البيت مبوأ.
وقال الشاعر:
كم من أخ لي ماجد *** بوأته بيدي لحدا
الثانية: {أَنْ لا تُشْرِكْ} هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام في قول الجمهور. وقرأ عكرمة: {أن لا يشرك} بالياء، على نقل معنى القول الذي قيل له. قال أبو حاتم: ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة، بمعنى لئلا يشرك.
وقيل: إن {أَنْ} مخففة من الثقيلة. وقيل مفسرة. وقيل زائدة، مثل: {فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 96].
وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت، أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعده وأنتم، فلم تفوا بل أشركتم. وقالت فرقة: الخطاب من قوله: {أَنْ لا تُشْرِكْ} لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج. والجمهور على أن ذلك لإبراهيم، وهو الأصح. وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء.
وقيل: عني به التطهير عن الأوثان، كما قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ 30} [الحج: 30]، وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم عليه السلام.
وقيل: المعنى نزه بيتي عن أن يعبد فيه صنم. وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه. وقد مضى ما للعلماء في تنزيه المسجد الحرام وغيره من المساجد بما فيه كفاية في سورة براءة. والقائمون هم المصلون. وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها، وهو القيام والركوع والسجود.


{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} قرأ جمهور الناس: {وَأَذِّنْ} بتشديد الذال. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيصن: {وآذن} بتخفيف الذال ومد الالف. ابن عطية: وتصحف هذا علي بن جني، فإنه حكى عنهما {وآذن} على أنه فعل ماض، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفا على {بَوَّأْنا 10: 93}. والأذان الاعلام، وقد تقدم في براءة.
الثانية: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل له: أذن في الناس بالحج، قال: يا رب! وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلى الإبلاغ، فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار، فحجوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك! فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة، إن أجاب مرة فمرة، وإن أجاب مرتين فمرتين، وجرت التلبية على ذلك، قاله ابن عباس وابن جبير.
وروى عن أبي الطفيل قال قال لي ابن عباس: أتدرى ما كان أصل التلبية؟ قلت لا! قال: لما أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج خفضت الجبال رءوسها ورفعت له القرى، فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شي: لبيك اللهم لبيك.
وقيل: إن الخطاب لإبراهيم عليه السلام تم عند قوله: {السُّجُودِ}، ثم خاطب الله عز وجل محمدا عليه الصلاة والسلام فقال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أي أعلمهم أن عليهم الحج. وقول ثالث- إن الخطاب من قوله: {أَنْ لا تُشْرِكْ} مخاطبة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذا قول أهل النظر، لان القرآن أنزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك. وهاهنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي} بالتاء، وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم عليه السلام غائب، فالمعنى على هذا: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله تعالى وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده. وقرأ جمهور الناس: {بِالْحَجِّ} بفتح الحاء. وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها.
وقيل: إن نداء إبراهيم من جملة ما أمر به من شرائع الدين. والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ} وعده إجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، وإنما قال: {يَأْتُوكَ} وإن كانوا يأتون الكعبة لان المنادى إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجا فكأنما أتى إبراهيم، لأنه أجاب نداءه، وفية تشريف إبراهيم. ابن عطية: {رِجالًا} جمع راجل مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب.
وقيل: الرجال جمع رجل، والرجل جمع، راجل مثل تجار وتجر وتاجر، وصحاب وصحب وصاحب. وقد يقال في الجمع: رجال بالتشديد، مثل كافر وكفار. وقرأ ابن أبي إسحاق وعكرمة {رجالا} بضم الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع، ورويت عن مجاهد. وقرأ مجاهد {رجالي} على وزن فعالي، فهو مثل كسالى. قال النحاس: في جمع راجل خمسة أوجه، ورجالة مثل ركاب، وهو الذي روى عن عكرمة، ورجال مثل قيام، ورجلة، ورجل، ورجالة. الذي روى عن مجاهد رجالا غير معروف، والأشبه به أن يكون غير منون مثل كسالى وسكارى، ولو نون لكان على فعال، وفعال في الجمع قليل. وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي. {وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ} لأن معنى {ضامِرٍ} معنى ضوامر. قال الفراء: ويجوز {يأتي} على اللفظ. والضامر: البعير المهزول الذي أتعبه السفر، يقال: ضمر يضمر ضمورا، فوصفها الله تعالى بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة. وذكر سبب الضمور فقال: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي أثر فيها طول السفر. ورد الضمير إلى الإبل تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها، كما قال: {وَالْعادِياتِ ضَبْحاً 100: 1} [العاديات: 1] في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في سبيل الله.
الرابعة: قال بعضهم: إنما قال: {رِجالًا} لان الغالب خروج الرجال إلى الحج دون الإناث، فقوله: {رِجالًا} من قولك: هذا رجل، وهذا فيه بعد، لقوله: {وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ} يعني الركبان، فدخل فيه الرجال والنساء. ولما قال تعالى: {رِجالًا} وبدأ بهم دل ذلك على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب. قال ابن عباس: ما آسى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشيا، فإني سمعت الله عز وجل يقول: {يَأْتُوكَ رِجالًا}.
وقال ابن أبي نجيح: حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين. وقرأ أصحاب ابن مسعود: {يأتون} وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحاك، والضمير للناس.
الخامسة: لا خلاف في جواز الركوب والمشي، واختلفوا في الأفضل منهما، فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ولكثرة النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب. وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل لما فيه من المشقة على النفس، ولحديث أبي سعيد قال: حج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، وقال: «اربطوا أوساطكم بأزركم» ومشى خلط الهرولة، خرجه ابن ماجه في سننه. ولا خلاف في أن الركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل، للاقتداء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
السادسة: استدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط. قال مالك في الموازية: لا أسمع للبحر ذكرا، وهذا تأنس، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه، وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس في السفن، ولا بد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلا وإما على ضامر، فإنما ذكرت حالتا الوصول، وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوى. فأما إذا اقترن به عدو وخوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصا، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الاعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع. قال ابن عطية: وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاما، ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشيء من هذه الاعذار، وهذا ضعيف. قلت: وأضعف من ضعيف، وقد مضى في البقرة بيانه. والفج: الطريق الواسعة، والجمع فجاج. وقد مضى في الأنبياء. والعميق معناه البعيد. وقراءة الجماعة {يَأْتِينَ}. وقرأ أصحاب عبد الله {يأتون} وهذا للركبان و{يَأْتِينَ} للجمال، كأنه. قال: وعلى إبل ضامرة يأتين {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي بعيد، ومنه بئر عميقة أي بعيدة القعر، ومنه:
وقاتم الأعماق خاوى المخترق ***
السابعة: واختلفوا في الواصل إلى البيت، هل يرفع يديه عند رؤيته أم لا، فروى أبو داود قال، سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت ويرفع يديه فقال: ما كنت أرى أن أحدا يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم نكن نفعله.
وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ترفع الأيدي في سبع مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت والصفا والمروة والموقفين والجمرتين». وإلى حديث ابن عباس هذا ذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وضعفوا حديث جابر، لان مهاجرا المكي راوية مجهول. وكان ابن عمر يرفع يديه عند رؤية البيت. وعن ابن عباس مثله.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10